الفصل الأول : كيف أثرت طفولة المهدي على شخصيته في ريعان الشباب ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الفصل الأول

 كيف أثرت طفولة المهدي على شخصيته في ريعان الشباب ؟


ليس هنالك شيء غير عادي أو طبيعي حدث أثناء ولادة المهدي بل

لم يلحظ العالم ولادته أصلاً وأنى يتأتى لأحد من الخلق معرفة الغيب

الذي لا يعلمه إلا الله وحده ولا يجليه لوقته إلا هو بقوله (كن)

للشيء فيكون سبحانه وتعالى عما يصفون وسلام على المهتدين .

عاش المهدي سنوات عمره الأولى في كنف والديه وكان ترتيبه


الرابع بين إخوته من أصل عشرة أولاد منهم سبعة ذكور فضلاً عن


أثر وجود جدته لأبيه وجدته لأمه على حياته في سنوات طفولته


المبكرة ، وكان المهدي الصغير من أسرة مسلمة سنية محافظة


ليس لها باع ولا ذراع في العلم الشرعي لكنها أسرة عادية متدينة


من عوام الناس ، وكان هادئ الطبع وخجولاً بين أقرانه ويحسن


الظن بالآخرين ولا يبادر بالإساءة لأحد منذ نعومة أظفاره كما


اشتهر بين أهله وذويه بسلامة فطرته وصفاء نيته ونقاء سريرته


حتى أنهم كانوا يطلقون عليه ألقاباً غير محببة له بين الحين


والآخر وكان يتقبلها منهم برحابة صدر رغم أنها كانت جارحة له ،


وأما عن عقله فلم تظهر عليه قدرات خارقة في الذكاء تميزه عن


غيره ولكن سرعان ما اعترف جميع المحيطين به بذكائه الفطري


والطبيعي من خلال تفوقه الدراسي وحصوله على المراكز المتقدمة


الأولى في الدراسة ونيل شهادات التقدير مكافأة له في نهاية الفصل


الدراسي لا سيّما في سنواته الدراسية الأولى من مراحل التعليم في


البلد التي كان أهله وذوُوه يقطنونها ويُعرفون فيها بـ "اللاجئين"


بعد تهجيرهم القسري من بلدهم الأم التي كانوا يعيشون فيها قبل ذلك                 

 وكان المهدي الصغير في طفولته المبكرة يُلقي بكامل سمعه وبصره

وجوارحه إلى أبويه وجدتيه أثناء سردهم له ولإخوته قصص

وروايات تهجيرهم القسري الدموية المرعبة والتي تحكي كيفية

انتزاعهم من أرضهم وجذورهم انتزاعاً دون رحمة أو هوادة على

 مرأى ومسمع ورضى وتشفي من العالم أجمع في إطار مؤامرة

 كونية دولية قلّ نظيرها في تاريخ البشرية الحديث وجرى تنفيذها

 ضد شعب أعزل لم يكن يملك من حطام الدنيا سوى قوت يومه من

 خيرات أرضه التي رزقه الله إياها ليُحرم منها بالكامل وتعطى لشذاذ

 آفاق سمّاهم العالم "شعباً" وهم ليسوا كذلك فاحتلوا أرضهم

 وسكنوا دورهم وأكلوا ثمارهم وألقوا بهم في شتات الأرض ومنافي

 البلاد وسمّوهم "اللاجئين" ، وهنالك في إحدى منافي هذه البلاد

 وهي البلد التي هاجر إليها أهل وذوُو المهدي الصغير قبل ولادته

 فيها بعقدين من الزمان تقريباً ولم يخرج منها طيلة حياته الماضية

 فيها لغاية الآن فلعل هجرة أهله وذويه إليها كانت بمثابة الباب الذي

 دخل منه المهدي الصغير إليها بولادته وقضاء جل حياته فيها وقد

 تم سبكه وصُنعه على عين الله تعالى وبعناية فائقة منه جل في عُلاه

 إلى أن يأذن الله تعالى للمهدي في كِبَرِه بالخروج منها إلى  أمرٍ

 عظيم يريد الله أن يُحدثه في الأرض على يد هذا العبد الذي اصطنعه

 لنفسه وتولى حفظه ورعايته بنفسه إلى أن جاء اليوم الموعود

 الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وقد أخفى العلم به عن سائر مخلوقاته

 وجعله سراً مكتوماً إلى حين تنفيذه ، فيا لها من مفاجأة عظيمة

 للبشرية جمعاء وكارثة عظمى تحل بشياطين الجن والإنس وبشرى

 عظيمة للمؤمنين المستضعفين في الأرض من أمة النبي محمد

 صلى الله عليه وسلم ، فأقول : لعل خروج المهدي الكبير من تلك

 البلد - كما أسلفت -  بأمر الله تعالى يكون بمثابة ذلك الباب الذي

 ليس منه إياب لتلك البلد بمعنى أنه سيتعذر عليه أي المهدي

 الرجوع إلى تلك البلد إذا خرج منها حتى وفاته ولقاء ربه .          

 ضمن هذا الإطار المأساوي الذي ورثه المهدي الصغير في سنوات

 طفولته المبكرة عن أهله وذويه عرف قصة شعبه المنكوب

 وأصوله وجذوره وتعرّف على قضية إسمها "فلسطين" في هذا

 العالم قبل أن يتعلم عنها الكثير في مدرسته من خلال المناهج

 التعليمية التي تحدثت عنها بإسهاب وقبل أن يتابع بشغف تفاصيلها

 الدقيقة وتداعياتها ومستجداتها على الساحة الدولية والإقليمية

 والمحلية من خلال وسائل الإعلام المتنوعة ذلك مما لم يُتح ويتسنى

 له إلا في شبابه ، أقول : لقد وَلّدَ هذا الموروث المأساوي الشعبوي

 في نفس المهدي الصغير إحساساً بالظلم والقهر والذل والهوان

 والذي سيكبر معه حتماً ويتنامى بداخله مع مرور الأيام ولأنه نتج

 عن حالة انتزاع الحق من أيدي أصحابه الشرعيين بالإكراه

 والإجبار والقوة والتسلط ليؤول إلى قوم آخرين ما كان لهم أن

 يمتلكوه إلا بحبل من أناس يسيطرون على مقاليد الأمور في هذه

 الحياة وهم وحدهم الذين يقررون مصائر الأمم والشعوب في هذا

 العالم ، أقول : لأن الأمر كذلك فإن هذا الإكراه والإجبار والتسلط

 سوف يشكل عقدة نفسية حادة تكمن في أعماق المهدي الصغير

 وتبقى ماثلة أمام عينيه كلما استجد أمر مشابه لها في حياته حدث

 معه مهما كان صغيراً أي الحدث لانه سوف يستدعي حينئذ ذلك

 الإحساس لديه بالظلم والقهر والذل والهوان ذلك الشيء البغيض

 المقيت ، فكيف سيواجه المهدي هذه المعضلة في حياته كلها ؟

 وماذا ستكون ردود أفعاله تجاهها في مراحل حياته المختلفة ؟

 وسنترك الإجابة لقادم أيام المهدي وحكاياته مما سنسرده على

 مسامعكم بإسهاب وتفصيل فيما تبَقى من حديث الفصول الأربعة بإذن الله .

   وما أن لفظت السنوات الخمس الأولى من عمر المهدي الصغير أنفاسها وانقضت حتى بدأ يستعد ويُجهز نفسه لدخول المدرسة في السنة المقبلة بحسب النظام التعليمي المتبع في البلد التي يقطنها مع أهله وذويه كما تقدم لكنه لم يلبث طويلاً حتى شهد بأم عينيه وكامل جوارحه حرباً مكتملة الأركان وطاحنة وضروس في تلك البلد لتستمر عشرة أيام سوداء حالكة جراء قصف الجيش المدفعي والصاروخي العنيف المتواصل بلا هوادة على مدار الساعة لقواعد الفدائيين والمباني السكنية والشوارع والطرقات في مختلف مدن تلك البلد وجراء رصاص رشاشات الفدائيين المسكوب فوق الرؤوس في كل الإتجاهات كما كانت تلك الأيام والليالي حمراء داكنة بلون آلاف الدماء البريئة التي سُفكت دونما ذنب أو جريرة سوى أنها لبشر عاشوا في زمن يسوده الجور والظلم والقهر ، وكان المهدي الصغير بين أهله وإخوته يفرون حفايا بملابسهم البائسة من بيتهم المكشوف تماماً تحت القصف إلى مغارة قريبة كانوا يعرفونها هي أكثر أمناً على حياتهم لكن الوصول إليها كان محفوفاً بالمخاطر عبر شوارع ترابية ضيقة وسط عواميد وحبال الكهرباء المقطعة ومحابس وخراطيم المياه المتفجرة جراء القصف والجثث البشرية والحيوانية المتناثرة على جنبات الطريق وقد اختلطت دماؤها بالطين والوحل وانبعثت منها روائح كريهة غطت المكان إلى أن تم الوصول إلى تلك المغارة الآمنة نوعاً ما حتى وضعت الحرب أوزارها وخرج منها المهدي الصغير مع باقي إخوته وأهله سالمين ليعودوا إلى بيتهم الذي أصابته الشظايا فيرمموه .                 وانقضت الحرب ولم يعد المهدي الصغير كما كان قبلها فقد كان سعيداً باقتراب موعد دخوله المدرسة ليصبح بعد الحرب حزيناً منطوياً على نفسه لا تغادر مشاهدها القاسية المؤلمة مخيلته ولا ينفك يتملكه ذلك الإحساس البغيض المقيت بالظلم والقهر والذل والهوان والذي سيكبر معه

 حتماً ويتنامى بداخله مع مرور الأيام ولأنه نتج عن

 حالة الفصل العنصري والتمييز والتنمر التي جرى

 إذكاؤها في نفوس السكان الأصليين لتلك البلد ضد

 اللاجئين الذين تدفقوا إليها بأعداد هائلة فاقت عدد

 سكانها الأصليين حتى بلغت ضعفهم تقريباً وصنعوا

 لهم بعبعاً " كالعجل الذي له خوار" ليخوّفوهم منه

 بالليل والنهار وسمّوه لهم في الإعلام "فكرة الوطن

 البديل" ليغرسوه مع مرور الأيام في ذاكرتهم الجمعية

 ويُبقوهم تحت تأثير مخدّر ذلك الفصل والتمييز

 والتنمر تجاه إخوانهم وبني جلدتهم اللاجئين إليهم

 فيحق عليهم القول الدارج "كالمستغيث من الرمضاء

 بالنار" وآخر يقول "أضيَع من الأيتام على مآدب

 اللئام" وتلك الحقائق نوردها كما هي دون مجاملة

 لأحد أو خوف من أحد إلا الله مالك كل شيء وإليه

 المصير ، ولعل قصة تجنيس أو توطين اللاجئين في

 تلك البلد أكبر شاهد ودليل على ما تقدّم لأن الفجوة

 زادت واتسعت وتعمقت الهوّة أكثر بين اللاجئين

 والسكان الأصليين بهذا التجنيس أو التوطين واستمر

 هذا الإحتقان بينهما في التصاعد حتى ظهر العمل

 الفدائي المسلح ضد الغزاة المحتلين لأرض فلسطين

 منطلقاً من تلك البلد ومتمركزاً فيها ليكون بمثابة

 الشعرة التي قصمت ظهر البعير وشرارة وذريعة

 السلطة الحاكمة والجيش لإعلان البدء بشن الحرب

 في بلد الرايتين أي اللاجئين والسكان الأصليين

 والكنانة التي أخفى الله سبحانه وتعالى المهدي فيها

 طيلة حياته الماضية إلى حين اليوم الموعود والقدر

 المحتوم ولعل هروب المهدي من تلك البلد حينئذ له

 علاقة وثيقة بخشيته من اشتعال حرب جديدة بينهما

 بعد تلك الحرب المأساوية التي شهدها وهو صغير لا

 سيّما إذا ظهر في العلن وتعرّف عليه الناس في تلك

 البلد وادّعى كل طرف من الفريقين أو الرايتين أنه

 منهم ، وأعود بكم إلى قولي بأن إحساس المهدي

 الصغير بالظلم والقهر والذل والهوان بعد تلك الحرب

 البغيضة إنما نتج عن حالة الفصل العنصري والتمييز

 والتنمر ولأن الأمر كذلك فإن هذا الفصل والتمييز

 
والتنمر شكّل عقدة نفسية حادة جديدة أضيفت إلى سابقتها أي الإكراه والإجبار والتسلط لتكمنان معاً في أعماقه وتبقيا ماثلتين أمام عينيه كلما استجد أمر مشابه لأحدهما أو كليهما معاً في حياته حدث معه مهما كان صغيراً أي الحدث لانه سوف يستدعي حينئذ ذلك الإحساس البغيض المقيت لديه بالظلم والقهر والذل والهوان ، وكما تساءلنا سابقاً كيف سيواجه المهدي هاتين المعضلتين في حياته كلها ؟ وماذا ستكون ردود أفعاله تجاهها في مراحل حياته المختلفة ؟ وسنترك الإجابة لقادم أيام المهدي وحكاياته مما سنسرده على مسامعكم بإسهاب وتفصيل فيما تبَقى من حديث الفصول الأربعة بإذن الله .

    ويحين موعد دخول المهدي الصغير المدرسة لأول مرة في حياته وهنا كانت المفاجأة وأولى ردود أفعاله تجاه هاتين العقدتين المستقرّتين في أعماقه فها هو يصدم أهله وذويه بقراره رفض الأمر الواقع وعدم الإستسلام والخضوع له بمعنى الإستنكاف عن دخول المدرسة لتتولى أمه مهمة توبيخه لثنيه عن قراره فلم تفلح في ذلك فقررت استعمال القوة الناعمة في تأديبه لتجد منه الصدّ والعناد مما اضطرها لجرّه إلى المدرسة جراً تحت ضربات الكرباج التي ألهبت بها جسده النحيل ليدخل المدرسة متألماً باكياً لكن سرعان ما هدأت نفسه واستقرت حين وجد أقرانه من الأطفال في المدرسة يضحكون ويلعبون ومع مرور الأيام ينخرط المهدي الصغير في مدرسته ويُقبل على التعلم منها بشغف ويتفوق على أقرانه فيها ويصبح محبوباً بين المعلمين والطلاب على حد سواء كما كانت إدارة المدرسة في نهاية كل فصل دراسي تدعو إليها أولياء أمور الطلبة المتفوقين لتكريمهم على تربيتهم الحسنة لأبنائهم المتفوقين وتسلمهم شهادات تقدير مكافأة لأبنائهم على التفوق وكانت أم المهدي الصغير هي التي تحضر معه إلى هذا الإجتماع في نهاية كل فصل دراسي وتستمع للأساتذة وهم يشيدون بتفوق إبنها ويثنون عليه فترجع إلى بيتها وهي مرفوعة الرأس فخورة بإبنها لتفاخر به بنات جيلها من نساء عائلتها أو عشيرتها والتي هي نفس عائلة وعشيرة المهدي الصغير لأن أمه تكون ابنة عم لوالده والذي بدوره لم يكن ليحضر هذا الإجتماع مع ولده بسبب طبيعة عمله الشاق والمضني في وسط الصحراء القاحلة هو ومن كان على شاكلته من أبناء جيله وشعبه ممن تهجروا من أرضهم إلى تلك البلد كما تقدم يقتلعون منها الحجارة الضخمة بأدواتهم اليدوية البسيطة ليحملوها على ظهورهم مسافة الوصول بها إلى شاحنات تتولى بدورها نقل تلك الحجارة الضخمة إلى مناشير الحجارة المتواجدة على أطراف عاصمة تلك البلد ليقوموا بتفريغ الشاحنات من الحجارة بحملها على ظهورهم وتسليمها لتلك المناشير ثم يعودوا إلى بيوتهم لعدة أيام يستريحون فيها من عناء وشقاء العمل ويقبضون أجورهم الزهيدة التي كانت بالكاد تكفي لتدبير أمور المعيشة والإنفاق على أسَرهم حتى مع ما كانوا يحصلون عليه من مساعدات عينية ضئيلة من "الأونروا" آنذاك ثم يغيبون من جديد عن بيوتهم وأسَرهم لأيام طويلة ليواصلوا عملهم الشاق المضني على النحو السابق في وسط الصحراء الملتهبة وهلمّ جرّا ولتمضي تلك الحجارة بعد مرورها بمراحل عديدة ومتنوعة لتحط رحالها في قلب عاصمة تلك البلد أبنية فاخرة وقصوراً فارهة لعلية القوم وأباطرة الحكم وأصحاب الثراء الفاحش آنذاك من أهلها وسكانها الأصليين وهكذا كانت حياة والد المهدي الصغير ومن كانوا معه من أبناء شعبه اللاجئين إليها فلم يكن الواحد منهم يعيش في أسرته وبين أولاده إلا قليلا بما لا يُسمن أو يُغني من جوع في التربية والتوجيه وكانت جدة المهدي الصغير لأبيه تعيش معهم في نفس البيت لأن أباه كان إبنها الوحيد الذي لم تنجب غيره من الأولاد مما اضطر جده لأبيه للزواج من غيرها فكوّن أسرة جديدة كان يعيش معها فطلبت جدته من جده أن يطلقها وكان لها ما أرادت لتعيش مع إبنها الوحيد قبل زواجه من إبنة عمه في بيت متواضع وبعد زواجه انتقلت معه إلى بيته الجديد وعاشت مع زوجته وأسرته في بيت واحد ، أما جده لأبيه فلم يكن له تأثير يُذكر على حياته بسبب ما تقدم بشأن جده حتى توفاه الله قبل سنة واحدة من اندلاع الحرب الأهلية الملعونة التي شهدها المهدي الصغير في تلك البلد ، وأما جده لأمه فقد توفاه الله بعد عام النكبة 1948م بقليل لتتولى جدته لأمه تربية أولادها الأربعة ذكوراً وإناثاً بالتساوي وقد عانت كثيراً في تربيتهم إلى أن زوّجت ابنتيها وأحد أبنائها ويغادر إبنها الثاني البلد مع العديد من أبناء جيله إلى "الكويت" ليواصل حياته فيها وقد عاشت جدته لأمه بعد ذلك وحيدة وكانت تسكن في بيت متواضع جداً كان قريباً من بيت أهله حيث كانت تزورهم بين الحين والآخر وكان المهدي الصغير وإخوته يزورونها في أي وقت شاؤوا وقد بقيت في بيتها هذا إلى أن تمكن إبنها وكان يعمل في مجال البناء من بناء بيت مستقل له ولأسرته فأخذها لتعيش معه في ذلك البيت ، وهذه المعلومات إنما جاءت في سياق الحديث ليس أكثر لأعود بكم إلى قصة المهدي الصغير مع مدرسته فأقول : ما الذي دعا المهدي الصغير وهو في هذا السن المبكر من عمره وطفولته إلى اتخاذ قرار خطير كهذا أي رفض دخول المدرسة أو بالأحرى كيف استطاع فعل ذلك ؟! في نفس الوقت الذي كان فيه غيره من الأطفال الذين هم من نفس عمره وجيله يضحكون ويلعبون فرحين جداً بدخولهم المدرسة لا سيّما أنهم عاشوا نفس ظروف وتداعيات الحرب القاسية الطاحنة التي عاشها فضلاً عن كونهم جميعاً لاجئين مثله تماماً لأن المدرسة كانت تابعة لوكالة الغوث "الأونروا" المتواجدة في جميع مخيمات اللجوء في تلك البلد ، والجواب هو في شخصية المهدي نفسه منذ ولادته فقد وهبه الله سبحانه وتعالى نفساً رقيقة جداً وشفافة قد تخدشها نسمات الصباح الناعمة اللطيفة فكيف بها إذا واجهت ريحاً عاتية وعواصف شديدة لا جَرَمَ أنها سوف تتقطع إرباً إربا وينكسر لها قلبه أيّما انكسار حتى أن نظرات الناس إليه كانت تؤثر فيه فإن كانت نظرة إعجاب ذاب خجلاً من نفسه واحمر وجهه وتصبب جبينه عرقاً وإن كانت غير ذلك فسوف تهز أعماقه وتزلزل أركانه وتجعله حزيناً باكياً لكن بلا دموع ومتألماً لكن بلا أنين حتى لا يُفتضح أمره بينهم ويرَونه ضعيفاً وهو يحب أن يُرى قوياً متماسكاً لا تهزه الريح ولا تحنيه العواصف ، فإذا كانت النظرة تؤثر فيه على هذا النحو فكيف سيكون تأثير الكلمة الجارحة له على نفسيته لا جَرَمَ أن تأثيرها عليه سيكون أشد وأبقى ولا داعي لأن نذكر تأثير ما هو أكبر من الكلمة عليه فقد وضحت الإشارة واكتملت العبارة وهكذا هو الأمر فإن قال قائل : إن الأمر على هذا النحو قد يُعرّضه للأذى بالكلام الجارح وغيره نقول : أجل هو كذلك ولكن ليس من جميع الناس فالسفهاء الحَمقى منهم والحاسدون له أو الحاقدون عليه أي المُبغضون له لأمراض في أنفسهم فقط هم الذين قد يؤذونه بالنظرات أو الكلام الجارح أو الضرب أحياناً وهؤلاء يدرك المهدي حقيقتهم مسبقاً فلا يتوقع أن يصدر منهم تجاهه غير ذلك فيتقبل صنيعهم معه بكل رحابة صدر ويسامحهم على الفور ولا يحقد على أحد منهم بل يشفق عليهم ويدعو لهم بالخير ويتحيّن الفرص لإكرامهم بما يليق به وليس بما يليق بهم ، وأما العقلاء الذين لديهم حكمة وبُعد نظر من الناس والمحبون له لذاته وشخصه فهؤلاء يحبهم ويحبونه ولا يتوقع منهم أن يؤذوه البتة ولا يظن بهم إلا خيرا ولكنهم متحيّرون بشأنه ويستعصي عليهم فهمه مما يستفزهم ويثير حفيظتهم تجاهه فيحرصون كل الحرص على الإبقاء على حبال المودة والوصال وجسور المحبة والإحترام بينهم وبينه لعلهم يصلون إلى نتيجة بشأنه يوماً ما ولكنهم يفشلون كلما أرادوا الإقتراب منه أكثر مما ينبغي محاولين سبر أغوار كنهه وحقيقته إذ أنهم يزعجونه بتدخلاتهم الحثيثة في شؤونه الخاصة فيبدأ بالتواري منهم ثم الإبتعاد عنهم شيئاً فشيئاً حتى ينسحب من حياتهم بهدوء فإذا ما يئسوا منه تركوه وشأنه وانفضوا عنه مرغمين ، وهنا قد يستوقفنا أحد منتقدينا من سفهاء الناس وغيرهم ليقول : إن صفة النفس الرقيقة الشفافة موجودة لدى عموم النساء أو الإناث من الجنس البشري حتى أطلقوا عليهن الجنس الناعم أو اللطيف ذلك مع الإقرار بوجود هذه الصفة لدى بعض الرجال أو الذكور من الجنس البشري لكنها طبيعية ومحببه في النساء لتوافقها مع الدور المنوط بهن في الحياة وهي غير طبيعية ومكروهة في الرجال لتناقضها مع الدور المنوط بهم في الحياة فهل تريد منا أن نصدّق بأن المهدي الذي سيقلب العالم رأساً على عقب ويفعل الأفاعيل الشبيهة بالأساطير في طواغيت الأرض وأكابر مجرميها من شياطين الإنس والجن لديه هذه الصفة المتناقضة تماماً مع أدنى متطلبات مهمته المهدوية في إقامة الخلافة والعدل والقسط في الأرض والقضاء على الجور والظلم والإفساد في الأرض ؟ أو لعلك تريد أن تجعل من وجود هذه الصفة في شخصية المهدي - كما تدّعي - أساساً أو ركناً رئيسياً في مهدويته ومهمته العظيمة في الأرض ! فما هذا الهراء والإستخفاف بعقول الناس ؟! وبدوري أرد على هؤلاء وأمثالهم لأقول وبالله التوفيق : ما ذكرتموه بشأن وجود هذه الصفة في الأعم الأغلب من النساء وفي بعض الرجال على وجه الخصوص وكونه طبيعياً ومحبباً في النساء هو صحيح تماماً ولكن أن تجعلوه غير طبيعي ومكروه في الرجال فقولكم هذا خاطئ تماماً ذلك أن عظماء النفوس من الرجال هم من يمتلكون هذه الصفة أي النفس الرقيقة الشفافة وهم في الغالب من يحملون في طياتهم وبين خلجات نفوسهم قيَماً ذاتية رفيعة ومبادئ سامية وأخلاقاً شامخة وهم مستعدون لأن يضحوا بحياتهم وبكل ما يمتلكون فيها من أجل الدفاع عنها أو إيجادها في واقع الحياة أي القيم والمبادئ والأخلاق ولكن إذا كان هؤلاء الأبطال العظام يعيشون في زمان أو مكان يطغى عليه التخلف والإنحطاط كما هو حاصل الآن في بلاد العرب والمسلمين فسوف يتم إحالة أوراقهم إلى حضرة المفتي كلب السلطان قبل أن يتم تنفيذ حكم الإعدام فيهم إذا حال القدر بينهم وبين الشهادة في ميدان البطولة والفداء بحسب المفهوم الإسلامي الصحيح وسوف يتم الإحتفاظ بملفاتهم القضائية الملفقة والمزورة بعد إعدامهم متهمين إياهم بالمخربين والإرهابيين وخوارج العصر والقائمة تطول ليمرّروا هذه الملفات عبر وسائل الإعلام والثقافة والتعليم إلى الذاكرة الجمعية للأجيال المستقبلية التي ستأخذ من هؤلاء الدروس والعبر فتصل الرسالة لكل من تسوّل له نفسه أن يقتدي بهم ويقلدهم في بطولاتهم قائلين له : هكذا سيكون مصيرك المحتوم عندنا ، حتى إذا ما فرَغوا من ذلك كله يحتفلون مع قضائهم "الشامخ" بقضائهم المبرم على كل المعاني السامية والعظيمة والنبيلة في الحياة لصالح عيش الكلاب الضالة والزواحف الضارة بالبشر وبالتالي يتم إلقاء قصص وبطولات هؤلاء العظماء في مزابل تاريخ عصور الإنحطاط المظلمة فلا يعود يحس بهم أحد أو يسمع لهم ركزا وأما تلك الجيَف الطافية على سطح بحر الظلمات فسوف ينحتون أسماءهم بماء الذهب على صفحات تاريخهم المزوّر أي كما قال الشاعر : أما ترى البحر تعلو فوقه جيَفٌ *** وتستقر بأقصى قاعه الدرَرُ ، وليبقى هؤلاء الظانون بالله غير الحق ظن الجاهلبة والذين يَحسبون أنهم يُحسنون صُنعا على ما هم عليه إلى أن يَحق عليهم القول ويقول الله فيهم كلمته فحينئذٍ يأتي أمر ربك ليبدأ الظهور الميمون للمهدي الموعود بإذن الواحد الأحد ، ونعود بعد ردنا المقتضب على هؤلاء إلى جوابنا السابق بخصوص رفض المهدي الصغير دخول المدرسة لنقول : هذه النفس الرقيقة الشفافة الموجودة في شخصية المهدي منذ ولادته كان لها الدور الأكبر في غرس وتجذير العقدتين آنفتي الذكر في أعماقه وهما عقدة الإحتلال واللجوء التي ورثها عن أهله وذويه ولم يشهدها لكنها انتقلت إليه عن طريق الرواية والإخبار من شهود العيان عليها وقد تولدت لديه بسبب الإكراه والإجبار والتسلط الذي مارسه الغزاة  المحتلون لأرض آبائه وأجداده على أبناء شعبه لطردهم منها بالقوة مما اضطرهم للهجرة من بلدهم واللجوء إلى البلاد المجاورة لها ابتداءً والعقدة الثانية هي عقدة الحرب الأهلية التي شهدها بأم عينيه وعاش أحداثها بجميع جوارحه وتأثر لها قلبه وأثرت على تفكيره وعقله وقد تولدت لديه بسبب الفصل العنصري والتمييز والتنمر الذي مارسه السكان الأصليون لتلك البلد التي هاجر إليها القسم الأكبر من اللاجئين كأهل وذوي المهدي الصغير قبل ولادته بعقدبن تقريباً على هؤلاء اللاجئين وقد تم ذلك بالتدرّج التصعيدي على مَرّ السنين إلى أن وقعت كارثة الحرب الأهلية البغيضة بين الطرفين كما أن ذلك الفصل العنصري والتمييز والتنمر ما كان ليتم إلا بفعل فاعل خبيث ذي مكر ودهاء أي السلطة الحاكمة في تلك البلد آنذاك وقد بيّنا ذلك سابقاً أي أن هذا السلوك المشين لم يكن متأصّلاً أو أصيلاً البتة في نفوس السكان الأصليين لتلك البلد وهم المشهود لهم بين العرب جميعاً بالنخوة والكرم ونجدة المظلوم وإغاثة الملهوف وإنما هو دخيل عليهم لإعتبارات خارجة عن معدنهم الصافي وطبائعهم النقية ومن نافلة القول الحديث عن خيانة وعمالة أنظمة حكم حظائر "سايكس - بيكو" قديماً وحديثاً للمستعمر الغربي الصليبي الذي جاء بها أو اختارها من بين سفلة الناس وأوباشها وحثالاتها أي رُوَيبضاتها ليجعلها السلطة الحاكمة بأمره ونهيه وعقيدته وشرعه وسطوته وسوطه في طول وعرض بلاد العرب والمسلمين من النهر إلى البحر في فلسطين وحدها لأهميتها القصوى بالنسبة له ومن المحيط إلى المحيط في سائر بلاد المسلمين بعربها وعجمها وهذا هو المُلك الجبري الذي جاء على إثر سقوط آخر خلافة المُلك العاض أو العضود للمسلمين منذ مئة سنة تقريباً وها هو اليوم يلفظ أنفاسه الأخيرة ويحتضر قبل الإعلان عن موته الزؤام وبزوغ فجر خلافة الراشدين المهديين من جديد إلى ما شاء الله لها أن تمكث في الأرض تملؤها عدلاً وقسطاً بعدما ملأها ذلك الإستعمار الغربي الصليبي البغيض جوراً وظلماً ممتثلاً أوامر آلهته التي يعبدها من دون الله وهي الشيطان والماسون والدجال وبمساعدة كل حكام العالم له من عبيده وعملائه ومرتزقته المأجورين قاتلهم الله جميعاً أنى يؤفكون ، ولا يفوتنا أيضاً أن ندين ونشجب ونستنكر بشدة ردود أفعال ذلك العمل الفدائي المسلح الذي كان محسوباً على اللاجئين في تلك البلد على ذلك السلوك الدخيل والمشين الذي مارسه السكان الأصليون لتلك البلد أي ذلك الفصل العنصري والتمييز والتنمر بحق اللاجئين إليهم إذ تضمنت ردود أفعالهم أي الفدائيين أعمالاً إجرامية دموية بحق عناصر من الجيش المحسوب على السكان الأصليين لتلك البلد قبيل اندلاع الحرب الأهلية بينهما دونما ذنب ارتكبوه أو جريرة مما أدى إلى زيادة إذكاء روح العداء وتصعيدها بوتيرة سريعة جداً في النفوس المحتقنة أصلاً لدى الطائفتين أهل الرايتين في تلك البلد ولتقع الكارثة حتماً ولا محالة أي الحرب الأهلية بينهما في أيلول من العام 1970م ذلك أن الشهادة لله نقيمها بالقسط ولو على أنفسنا أو الوالدَين والأقربين وإن نعدل هو أقرب للتقوى وقد أمِرنا بالعدل والإنصاف بين الناس جميعاً والله الموفق والمستعان ، وبمعنى آخر فكما أن الإنسان قد يتعرض جسده لإطلاق الأعيرة النارية عليه من مسدس أو رشاش فتستقر فيه رصاصتان على سبيل المثال ويستعصي على الأطباء إستخراجهما منه لأنهما مستقرّتان في مكان عميق من الجسد وأية محاولة يقوم فيها الطبيب لإستخراج أحدهما أو كليهما منه  يُعَدّ مغامرة ومجازفة بحياة المصاب ، ولله المثل الأعلى فكذلك حصل مع المهدي الصغير ولكن في نفسه وليس في جسده إذ استقرّت في أعماق نفسه الرقيقة والشفافة هاتان العقدتان لتكمنان معاً في أعماقه وتبقيا ماثلتين أمام عينيه كلما استجد أمر مشابه لأحدهما أو كليهما معاً في حياته حدث معه مهما كان صغيراً أي الحدث لانه سوف يستدعي حينئذ ذلك الإحساس البغيض المقيت لديه بالظلم والقهر والذل والهوان وقد واجه المهدي هاتين المعضلتين في حياته كلها فكانت ردود أفعاله تجاهها في مراحل حياته المختلفة تتمحور حول أمر واحد تقريباً ألا وهو رفض الأمر الواقع وعدم الإستسلام والخضوع له البتة مثل حادثة إستنكافه عن دخول المدرسة الآنفة الذكر أما مظهر ردة الفعل هذه في سلوكه وتصرفاته أي كيف كانت تظهر على سلوكه وتصرفاته إزاء كل حادثة مشابهة للعقدة الكامنة في أعماقه ؟ فذلك بحسب العقدة فإذا كانت عقدة الإكراه والإجبار والتسلط فإنه سوف يظهر على سلوكه حيالها عشق الحرية والهرب من المسؤولية والتفلت من القيود الجبرية وأما إذا كانت عقدة الفصل العنصري والتمييز والتنمر فإنه سوف يظهر على سلوكه حيالها العناد والمواجهة والتحدي والصمود ، ولا نقول ذلك جزافاً أو من وحي خيال وإنما من خلال استقرائنا الدقيق للوقائع والأحداث التي مرّ بها المهدي في مراحل حياته المختلفة لغاية الآن ، وسنترك الحُكم لقادم أيام المهدي وحكاياته مما سنسرده على مسامعكم بإسهاب وتفصيل فيما تبَقى من حديث الفصول الأربعة بإذن الله . هكذا كانت حياة المهدي الصغير خلال السنوات السبع الأولى من عمره تقريباً بحلوها وعذبها القليل ومرّها وعذابها الكثير وهو يقف الآن أي آنذاك على أبواب السنوات السبع الثانية من عمره حتى تكتمل طفولته ويدخل منها إلى عالم البلوغ أي الحلم وبداية سِن الشباب مع ملاحظة تكرار الرقم سبعة فيما يتعلق بالسنين في حياة المهدي وارتباطها الوثيق بمراحل عمره المختلفة وبنقاط مفصلية في حياته ستمر معنا لاحقاً وتباعاً حتى الوصول إلى نهاية هذا العمل بإذن الله ، ويبدأ المشهد من السنة الدراسية الثانية للمهدي الصغير في مدرسته التي أحبها بشغف وأقبل على التعلم منها بنهم حتى تفوّق فيها وأبهر الجميع بتفوّقه كما أسلفنا من قبل وكان من أكثر الدروس التي جذبت المهدي الصغير نحو مدرسته مادَّة التربية الإسلامية فهي التي قلبت حياة المهدي الصغير آنذاك رأساً على عقب فما أن بدأ بدراسة صفحاتها الأولى التي تتحدث عن عقيدته كمسلم حتى أصابه الإنبهار وتملكته الدهشة والذهول إذ بدأ عقله الغض الطري بحُكم سِنه آنذاك يكتشف عالماً آخراً جميلاً إسمه "الإسلام" كان موجوداً بالفعل قبل مئات السنين بحسَب المادة التي يدرسها في الكتاب وهو بالتأكيد ليس ذلك العالم القبيح الذي عاشه طيلة السنوات السبع الأولى من عمره وقد أطلق عليه فيما بعد إسم "الإلحاد" ومع أن الأمر كان يبدو عادياً جداً بالنسبة لأقرانه وأبناء جيله إلا أن نفسه الرقيقة جداً والشفافة أبَت عليه إلا الوقوع في شِباك عشق هذا الدين العظيم وكل ما يتعلق به في الحياة حتى النخاع ويتابع المهدي الصغير دراسته في هذه المادة بشغف ليتعرّف من خلالها على تفاصيل دينه العظيم في العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات بالإضافة إلى أحكام تجويد القرآن وقصص الأنبياء والمرسَلين والسيرة النبوية الشريفة وقصص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وكل ذلك حصل بالتدريج طبعاً طيلة السنوات السبع الثانية من عمره ولكن لكون تفكيره في تلك الفترة من حياته كان لا يزال سطحياً فإن ذلك كله أصبح مخزوناً في عقله الباطن في انتظار امتلاك القدرة على التفكير العميق والمستنير واكتفى المهدي الصغير طيلة تلك السنوات بالمشاعر المتدفقة والعواطف الجياشة تجاه دينه العظيم في أجواء رائعة وعظيمة يتنقل فيها ما بين مدرسته وبيته والمسجد القريب من بيته وعنوانها الأبرز هو الصلوات الخمس التي كان يواظب عليها باستمرار ودون انقطاع ثم صوم رمضان الذي كان ينتظره كل عام بفارغ الصبر وأذكار الصباح والمساء وقبل النوم التي اعتاد على ترديدها يومياً بدون انقطاع وثباته على خلُقه القويم وتعامله الحسَن مع الآخرين وبرّه بوالدَيه وجدتيه وعطفه على إخوته وحبه المفطور عليه للناس أجمعين ، فكانت هذه السنوات السبع بحق هي أجمل سنوات عمر المهدي على الإطلاق فقد اجتمعت فيها براءة الطفولة مع القرب من رب السماوات السبع والأراضين السبع وما بينهما سبحانه وتعالى رب العرش العظيم .

  

وهكذا يودّع المهدي الذي لم يعُد صغيراً بعد الآن أي آنذاك طفولته

 للأبد ليدخل مباشرة في سِن الحلم والبلوغ وبداية سِن الشباب أو

 رَيعان الشباب ولكن للأسف الشديد جرَت الرياح بما لا تشتهي

 السفن ذلك أن المهدي قبل وصوله إلى سِن البلوغ أي 15 سنة

 تقريباً وكان لا يزال حينها في السنة العاشرة من عمره وتلك هي

 بداية مرحلة المراهقة حتى يتم الوصول إلى سِن البلوغ أي من 10

 سنوات حتى 15 سنة تقريباً وهذا هو المفهوم الصحيح للمراهقة

 لدينا بحسَب المعنى اللغوي للكلمة والمصطلح الشرعي لها وهي

 الفترة أو المرحلة العمرية من حياة الطفل المسلم التي يتم فيها

 إعداده وتهيئته نفسياً وجسدياً لدخول مرحلة البلوغ أي بلوغ الحلم

 أو الإحتلام بالنسبة للذكر والإحتلام أو الحيض أو الحمل بالنسبة

 للأنثى وهي علامة على بدء التكليف الشرعي والسؤال والحساب

 يوم القيامة وهذا الإعداد والتهيئة النفسية والجسدية مثل الضرب

 على الصلاة والتفريق في المضاجع كما ورد في الحديث النبوي

 الشريف ، أما المفهوم الغربي للمراهقة الذي تم تصديره إلينا مع

 الإستعمار الغربي الصليبي لبلادنا على النحو الذي يعلمه الجميع

 فهو باطل شرعاً وغير مُلزم لنا وهو من اتباعنا لسُنن مَن كانوا

 قبلنا أي اليهود والنصارى وقد أرادوا منه تدمير الأجيال المسلمة

 وتحطيم قيَم ومبادئ الإسلام في نفوسهم وانتزاع الأخلاق الإسلامية

 من جوارحهم وقلوبهم لتحل محلها قيَم ومبادئ وأخلاق الغرب

 الصليبي الماسوني الصهيوني وبمعنى آخر احتلال العباد بعدما

 نجحوا في احتلال البلاد ونصَّبوا عليها الأوباش والأوغاد ، وأعود

 لأقول : أن المهدي وهو في السنة العاشرة من عمره كان يأمل

 ويتطلع وينتظر بفارغ الصبر وصوله إلى سِن التكليف هذا ليبدأ

 بداية قوية في علاقته مع الله ذلك أن البداية إذا كانت قوية فما

 بعدها سيكون أيسر عليه حتى يلقى ربه راضياً مَرضِيا ولكن للأسف

 الشديد جرَت الرياح بما لا تشتهي السفن فما الذي حدث بالضبط ؟

 وكيف حدث ؟ ولماذا ؟! فإليكم البيان : يبدأ المشهد حين وصل

 المهدي سِن العاشرة من عمره متفوّقاً في تحصيله العلمي ودراسته

 ومتفوّقاً في علاقته مع ربه وتديّنه على النحو الذي تقدم آنفاً فكان

 يسمع من عشيرته الأقربين والمحيطين به من الناس الإشادة

 بتفوّقه العلمي والدراسي على الدوام حتى يخجل من نفسه ويحمر

 وجهه ويتصبب جبينه عرَقاً بينما لا يَرى ولا يَسمع منهم غير

 الإستهزاء بتديّنه والنظر إليه بعين الإزدراء وصاروا يطلقون عليه

 لقب "شيخ" أي ضموه إلى طائفة "الشيوخ" التي كانت منبوذة

 في المجتمع برمّته آنذاك وهي ترمز عندهم إلى التديّن المبالغ فيه

 أو التشدد في الدين ففي تلك الفترة الزمنية من سبعينيات القرن

 الماضي كان الدين أمراً ثانوياً في الحياة أي كان يمثل حالة فردية

 في المجتمع وليس أسلوباً أو منهجاً ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد

 من السوء بل كان المجتمع عن طواعية واختيار يقوم بتحطيم هذه

 الحالة الفردية وقتلها نفسياً ومعنوياً وفي نفس الوقت يُعلي من

 شأن البُعد عن الدين أو الإنحراف عنه أو حتى تركه برمّته لدى

 الغالبية العُظمى من أبناء المجتمع فكانت نفس المهدي الرقيقة

 الشفافة تتأذى وتتألم من هذا الإستهزاء والإزدراء وتهتز لذلك

 أعماقه من الداخل لتحرّك عقدة الفصل والتمييز والتنمر الكامنة

 والمتجذرة في أعماقه وتولد لديه الإحساس بالظلم والقهر والذل

 والهوان فتكون ردة فعله رفض الأمر الواقع وعدم الإستسلام

 والخضوع له لتظهر على سلوكه تجاه حادثة الإستهزاء والإزدراء

 هذه بالعناد والمواجهة والتحدي والصمود وهكذا واصل المهدي

 تديّنه وعلاقته بربه رغم السخرية منه وازدرائه بسبب ذلك ولكن

 بالمقابل بدأ المهدي يكره تفوّقه العلمي والدراسي مع مرور الأيام

 شيئاً فشيئاً حتى بات يكره المدرسة ويحقد عليها وعلى كل ما يتعلق

 بها في حياته وبالتالي بدأ مستوى تحصيله العلمي والدراسي فيها

 ينخفض حتى وصل إلى المتوسّط تقريباً وحينئذٍ بدأ يفكر جديّاً بترك

 المدرسة وتعلم مهنة يعتاش منها ويساعد أهله في مصروف البيت

 وقد صرّح لأهله وذويه أي أسرته بهذا الأمر ولكنه قوبل بالرفض

 القاطع منهم جميعاً وطالبوه بالجد والإجتهاد ليستعيد تفوّقه

 الدراسي وتحصيله العلمي المعهود وحين وجد أن ذلك يشكل عقبة

 أمام تركه المدرسة بالفعل عمد إلى وضع خطة للسَّنة الدراسية

 المقبلة تقضي بخفض مستوى تحصيله العلمي والدراسي إلى

 مستوى الضعيف أو ما دون ذلك بما يُفضي في نهاية العام الدراسي

 إلى الرسوب الحتمي وبالتالي إقناع أسرته واقعياً وعملياً بضرورة

 تركه التعليم المدرسي لأنه لم يعُد يُجدي نفعاً وسوف يكون مضيعة

 للوقت والجهد ما دام أنه سيرسب في كل سنة فمن الأجدى والأنفع

 له ولأسرته أن يتعلم صنعة وهكذا فكر المهدي وحَسَمَ أمره واتخذ

 قراره متوكلاً على الله وقد بدأت السَّنة الدراسية الجديدة وبدأ بتنفيذ

 خطته بالفعل وكان من ضمن مقتضيات خطته حتى تلقى النجاح في

 نهاية السَّنة الدراسية القيام بإجراءات عملية على صعيد المدرسة

 وعلى صعيد البيت حسَب فهمه وإدراكه آنذاك فعلى سبيل المثال

 يجب عليه ترك صحبة الطلاب المتفوّقين في صفه ومدرسته

 ومصاحبة الطلاب الكسالى والبُلداء والمشاغبين أحياناً وعلى سبيل

 المثال يجب عليه أن يتغيَّب عن المنزل يومياً لساعات بعد المدرسة

 مما يلزم منه البحث عن أصدقاء من أقربائه يقضي معهم وقته بعلم

 أهله طبعاً ليعود آخر النهار إلى أهله متعباً ثم لا يلبث حتى يذهب

 للنوم مهملاً دروسه وقد سبق للمهدي آنذاك في صغره وبداية تديّنه

 أن تعرّف على صحبة صالحة من الأطفال من خلال صَلاتهم معه في

 المسجد القريب من بيته لكنهم تفرقوا عن بعضهم البعض بعد فترة

 من الزمن إذ كان يتكرر يومياً طردهم من المسجد من قبَل خادم

 المسجد وبعض الرجال ممن حوله بحجة أنهم مشاغبون ومزعجون

 ويُفسدون على الكبار صلاتهم في المسجد مما أدى مع مرور الوقت

 إلى ترك هؤلاء الصغار ومنهم المهدي صلاتهم في المسجد

 والإقتصار على أداء صلواتهم الخمس يومياً في بيوتهم وبالتالي

 انفضوا عن بعضهم البعض وانقطعت العلاقات فيما بينهم منذ ذلك

 الحين وحقيقة المساجد في تلك الفترة الزمنية من سبعينيات القرن

 الماضي هي أنها كانت خاوية على عروشها وبئر مُعطلة وقصْر

 مَشيد باستثناء صَلاة الجُمعة من كل أسبوع وأوائل وأواخر رمضان

 من كل سنة ولعل الذي كان يمنع غالبية المسلمين من ارتياد

 المساجد أو حتى الصلاة عموماً هو خوفهم الشديد من وصم

 المجتمع لهم بلقب "شيوخ" فيكون ذلك مدعاة للسخرية منهم

 والإستهزاء بهم وقد سمع المهدي آنذاك أحدهم يتحدث عن نفسه

 قائلاً أنه حينما يكون في السوق فإنه يستحي أو يخجل أن يدخل إلى

 المسجد لشرب الماء أو قضاء الحاجة فيبقى عطشاناً أو محشوراً

 حتى يرجع إلى بيته وذلك خشية  أن يراه أحد ممن يعرفونه فيظن

 أنه دخل إلى المسجد من أجل الصلاة فيه أو يظن أنه يُصَلي أساساً ،

 فعن أية دراسة أو تعليم يا سادتنا وكبَراءنا تتحدثون وأنتم تفنون

 باكورة أعماركم وزهرة شبابكم من أجل أوراق بالية تعلِّقونها على

 الجدران وقد نسيتم ربكم وحاربتم دينه بالليل والنهار ثم تموتون

 ليَرثها أبناؤكم ويقتدوا بكم ووجوهكم تقلَّب في النار التي كلما

 دخلتها أمّة لعنت أختها أهذا ما قدّمتموه لهم ؟ فلا مرحباً بكم ولا

 بهم إنكم جميعاً صالوا النار وبئس القرار ، وهكذا بدأ المهدي آنذاك

 يفكر بعمق في كل ما يجري حوله ويستدعي من داخل عقله الباطن

 ما تعلَّمه في صِغره ويعود ليُخزّن فيه ما يَتوصّل إليه من نتائج لا

 يمكنه البوح بها للناس ومنها ما هو خطير جداً قد يقتلوه بسببها

 وصار كثير الصمت قليل الكلام يتحدث مع نفسه أكثر مما يتحدث

 عنها وهكذا بدأت تتشكل ملامح وبواكير وإرهاصات شخصية

 المهدي خلال سنوات المراهقة الخمس التي تسبق سِن البلوغ أو

 الحلم كما بَيَّنا آنفاً وشخصية المَرء عموماً تتكوّن من عقليته

 ونفسيته أما عقليته فهي إدراكه وتفكيره وينتج عنها المفاهيم

 والمقاييس والقناعات بمعنى "العقيدة" لديه وأما نفسيته فهي

 عواطفه ومشاعره وينتج عنها السلوك والتصرفات بمعنى

 "العمل" لديه وشخصية المَرء المسلم إذا حصل فيها التوافق

 والإنسجام بين عقليته ونفسيته أي بين العقيدة والعمل لديه فإنها

 تكون "شخصية إسلامية" وإذا لم يحصل فيها التوافق والإنسجام

 بين عقليته ونفسيته أي بين العقيدة والعمل لديه فإنها تكون

 "شخصية غير إسلامية" وذلك لا يتنافى مع كونه مسلماً ما لم

 يظهر منه كفراً صراحاً أو بواحاً عندنا فيه من الله برهان وتلك

 الثانية للأسف الشديد كانت آنذاك - وما تزال إلا ما رحم ربك - هي

 شخصية الغالبية العُظمى من المسلمين أي الشخصية الغير إسلامية

 ولك أن تسمّيها بعد ذلك ما شئت علمانية ، ليبرالية ، إلحادية ،

 ربوبية ، لا دينية ، عروبية ، قومية ، وطنية ... إلَخ ، أما

 بخصوص شخصية المهدي التي نحن بصدد تحليلها بجَلاء وسَبر

 أغوارها بعُمق فهي في أصلها الذي جُبلَت عليه شخصية إسلامية

 بَحتة أو خالصة لله الذي فطرها وهَداها إليه أما كونها شخصية

 إسلامية فذلك ما توصّلنا إليه من خلال انطباق الوصف الذي تقدم

 عرضه عن حقيقة الشخصية الإسلامية على واقع شخص المهدي

 الحقيقي كما عرَّفناه لكم لغاية الآن أي آنذاك وهذا الأمر أي معرفة

 نوع الشخصية يشترك فيه المهدي مع سائر البشر ومنهم المسلمين

 بالطبع وأما كونها أي شخصية المهدي الإسلامية هي في أصلها

 الذي جُبلَت عليه بَحتة أو خالصة لله فذلك آتٍ من كونها خاصة

 بشخص المهدي الحقيقي الذي اختاره الله سبحانه وتعالى في زمانه

 وعصره ليكون هو الشخص المطلوب بعينه لأداء المهمة المنوطة

 به وهي خلافة الله في الأرض وإقامة العدل والقسط فيها بعدما

 ملأها الشيطان الجني والماسون المخفي والدجال الإنسي ومَن

 اتبَعهم من الغاوين من الإنس والجن بالجور والظم حتى وإن كان

 هو أي المهدي غير طالبٍ لها أو راغبٍ بها أي المهمة ولو كان له

 الخيار في قبولها أو رفضها لكان اختياره هو رفضها قطعاً ولكنه

 مُجبَر عليها بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته وعلمه ولعل ذلك

 يكون واحداً من الأسباب وليس جميعها بالطبع التي جعلت المهدي

 كارهاً لمبايعته على الخلافة بين الركن والمقام حتى أنه هرب منها

 أكثر من مَرّة إلى أن أُجبِر عليها تحت التهديد بالقتل كما ورد في

 الحديث النبوي الشريف ، وكون شخصية المهدي الإسلامية هي في

 أصلها الذي جُبلَت عليه بَحتة أو خالصة لله هو آتٍ أيضاً فضلاً عما

 سبق من كون عقيدة المهدي الداخلية الخاصة به هي العقيدة

 الإسلامية الصحيحة كما نزل بها الوحي من عند الله عز وجل على

 النبي المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليه ومنه إلى الناس

 أجمعين وظلت هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة تمثل أسلوباً

 ومنهجاً في الحياة لدى المسلمين جميعاً طيلة القرون الثلاثة الأُولى

 من عمر الأمّة الإسلامية والتي هي خير القرون كما ورد في

 الحديث النبوي الشريف ثم بدأ يعتريها الخلل بفعل أعداء هذا الدين

 حتى أصبحت مع مرور الوقت تمثل حالة فردية فقط موجوة لدى

 المجدِّدين الذين يبعثهم الله تعالى على رأس كل مائة عام ليجدِّدوا

 للأمّة دينها كما ورد في الحديث النبوي الشريف إلى أن غابت عن


الوجود والواقع نهائياً بعد سقوط آخر


خلافة المُلك العاض أو العضود لدى المسلمين وبداية المُلك الجبري

 لديهم منذ مائة عام تقريباً وقد حصل ذلك بفعل كيد الشيطان ومكر

 الماسون وكفر الدجال ومَن اتبَعهم من الغاوين من الإنس والجن في

 هذا الزمان وقد آن الآن أوان التغيير الجذري الشامل في واقع حياة

 الأمّة الإسلامية بهذه العقيدة الإسلامية الصحيحة على يَد المهدي

 وأنصاره المهديين الذين سيكونون معه بحَول الله وقوّته ،

 والحاصل أن المهدي ما هو إلا واحد من المسلمين يعيش بينهم في

 المجتمع ولا يتأتى له أن ينفصل عنهم بحالٍ من الأحوال فيؤثر فيهم

 كما يؤثرون فيه وبناءً عليه قد يحصل أن تتخلف الشخصية

 الإسلامية عن المهدي لتصبح شخصيته غير إسلامية أي أن تخرج

 شخصيته عن أصلها الذي جُبلت عليه وهو أنها إسلامية بَحتة

 خالصة لله لتصبح غير إسلامية وقد حصل ذلك بالفعل في حياة

 المهدي مع بداية سِن البُلوغ الذي هو 15 عاماً تقريباً وبقي على

 هذا الحال حتى أدركته رحمة الله تعالى وهو يقف على أبواب

 العشرين من عمره ليَمُنَّ عليه بالهداية من جديد والبدء بإصلاح ما

 فسَد من باطنه وإعادة بناء شخصيته لتعود إلى أصلها الذي جُبلت

 عليه أي إسلامية بَحتة خالصة لله وهذا ما سنتناوله بإسهابٍ

 وتفصيل في الفصل الثاني من سيرة وحياة المهدي إن شاء الله ،

 ولكن يبقى السؤال المطروح بإلحاح وهو كيف ولماذا حصل هذا

 الإنحراف الخطير عن الدين العظيم الذي أحَبه المهدي في طفولته

 وصِغره بشغف وكان مستعداً للتضحية من أجله بالغالي والنفيس

 طيلة فترة مراهقته التي سَبقت سِن البُلوغ كما بيَّنا سابقاً دون أن

 نكمل ؟! وللإجابة على السؤال كان لا بد لنا من العودة إلى إكمال

 سَرد الأحداث التي وقعت للمهدي طيلة فترة مراهقته وما تلاها من

 أحداث ومواقف حصلت معه بعد سِن البُلوغ إلى أن نكمل هذا الفصل

 الأَول من سيرة وحياة المهدي إن شاء الله ونعتذر لكم مُقدَّماً عن

 الإطالة والله وليّ التوفيق .


كنا قد توقفنا سابقاً عند مشهد سَرد تفاصيل مقتضيات خطة السَّنة الدراسية الجديدة التي وضعها المهدي لإقناع أهله وذويه أي أسرته بضرورة ترك المدرسة وتعلُّم صَنعة يعتاش منها ويساعد أهله في مصروف البيت وبالفعل بدأ المهدي بتنفيذ هذه الخطة مع بداية السَّنة الدراسية الجديدة وكانت الخطة تسير بنجاح على صعيدَي المدرسة والبيت معاً فها هو قد نجح في مصاحبة الطلاب الكسالى والبُلداء والمشاغبين في مدرسته حتى أنه سمع كبيرهم وهو يتحدث عنه للآخرين قائلاً : لقد أصبح "فلان" واحداً منا تماماً ، إلا أن هؤلاء الطلبة لم يكونوا ليصدِّقوا في قرارة أنفسهم أن المهدي لم يعُد متفوِّقاً في دراسته وذلك ما كان يلمسه المهدي منهم من خلال طلب بعضهم منه أحياناً أن يدرس جيداً للإمتحانات في نهاية السَّنة الدراسية حتى يقوم بمساعدتهم عن طريق الغش طبعاً ليَحصُلوا على علامات ونتائج أفضل مما كانوا يُحَصِّلوه في السنوات السابقة ولكن المهدي كان يُرجئ هذا الأمر إلى حينه في نهاية العام الدراسي لينظر كيف سيتصرَّف ؟ كان هذا على صعيد المدرسة أما على صعيد البيت فقد نجح في التغيُّب عن البيت يومياً لساعات بعد المدرسة كان يقضيها مع أصدقاء له من أقاربه بعلم أهله طبعاً ليعود آخر النهار إلى أهله متعباً ثم لا يلبث حتى يذهب للنوم مهملاً دروسه إذ كان يقضي هذا الوقت مع أصدقائه هؤلاء إما بتسلق الصخور الجَبلية أو "الكسَّارات" وإما باللعب بالكرة على أسطح منازلهم وإما بمشاهدة أفلام الكرتون على التلفاز في بيوتهم وإما باللعب بالثلج في أيام الشتاء القارس ، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن اقترب موعد تقديم الإمتحانات النهائية في آخر السَّنة الدراسية لتتزايد عليه الضغوط من أصحابه الكسالى  في المدرسة لكي يدرس جيداً قبل تقديم الإمتحانات وبالتالي مساعدتهم بالغش ليَحصُلوا على علامات ونتائج أفضل وكذلك تنهال الضغوط عليه من أسرته للبقاء في البيت بعد المدرسة من أجل الإستعداد والتحضير للإمتحانات القادمة وتعويض ما فاته وحينئذٍ لم يَجد المهدي بُدّاً له من الدراسة ولأنه كان ذكياً بفطرته وطبعه ولا يملك إلا أن يكون متفوّقاً في دراسته درَس بجد واجتهاد وتقدَّم للإمتحانات وقام بتغشيش الطلاب الكسالى بكل الوسائل الممكنة والمتاحة رغم مضايقات المراقبين على الإمتحانات له لمنعه من تغشيشهم ولكن الله سَلّم وسارت الأمور بنجاح ذلك في نفس الوقت الذي كان يقدِّم أوراق الإمتحانات شِبه خالية من الإجابات ليَضمَن نجاح خطته التي تقتضي الرسوب أي البقاء في نفس الصف دون الإنتقال إلى الصف الذي يَليه في العام الدراسي المُقبل وبعد انقضاء الإمتحانات وحصوله على الشهادة أو كشف العلامات الصادر عن المدرسة فاجأ أهله وذويه بنتيجته المتدنية جداً وأخبرهم بأن هذه النتيجة تعني الرسوب وحاول إقناعهم مجدَّداً بضرورة ترك المدرسة وتعلُّم صنعة يعتاش منها ويساعدهم في مصروف البيت لكنهم لم يُعَقبوا وأرجؤوا البت في الأمر إلى حين بدء العام الدراسي الجديد أما المهدي فقد باشر العمل في مهنة الحِدادة عند أحد أقربائه ليتعلم منه الصنعة وكان يمتلك ورشة للحِدادة وقد رحَّب هذا الشخص بالمهدي في ورشته ترحيباً جَمَّا لعِلمِه المُسبَق بذكاء وأخلاق وتدَيُّن "فلان" أي المهدي إلا أن هذا الشغل في ورشة الحِدادة لم يستمر طويلاً ذلك أن بعض الأشخاص من الملتصقين بأسرة المهدي وكانوا من عشيرته الأقربين لم يكونوا ليصدِّقوا بأن المهدي لم يَعُد متفوِّقاً في دراسته إلى حَد الرسوب في صفه إلا أن يكون قد تعمَّد هذا الرسوب مع سبق الإصرار والتصميم من أجل ترك المدرسة والذهاب لتعلُّم صنعة وقد اجتمع هؤلاء بشقيقه الأكبر وأقنعوه بذلك ليقوم بدَوره بإقناع أسرة المهدي بهذا الأمر وقد اتفقوا جميعاً أي أسرته على أن ينوب عنهم شقيقه الأكبر في الحديث مع المهدي من أجل ترك مهنة الحِدادة والعودة إلى المدرسة لإكمال تعليمه وبالفعل تحدَّث معه شقيقه الأكبر بالأمر ولكن المهدي رفض العودة إلى المدرسة والتعليم رفضاً قاطعاً فما كان من شقيقه الأكبر الذي كان يكبره بعشر سنوات وكان قويّ البنية والشكيمة إلا أن انقض عليه وانهال عليه بالضرب وتوجيه لكمات قوية على وجهه كادت إحداها أن تفقده إحدى عينيه لولا لطف الله وعنايته وذلك وسط محاولات باقي إخوته وأمه وجدته لأبيه للذود عنه أي المهدي ودفع شقيقه الأكبر عنه وما أن تمكنوا من ذلك حتى كان المهدي يفلت من بين يدَي شقيقه الأكبر وقد امتلأ وجهه بالرضوض والكدمات وتورَّمت أوداجه وانتفخت عيناه وكان يشعر بالصداع الشديد ويعتصره الألم من الداخل وهو مُرهَق تماماً وعاجز عن التفكير ليجد نفسه يَغط في نومٍ عميق وفي اليوم التالي حيث كان العام الدراسي الجديد قد بدأ بالفعل أخبر المهدي أهله وذويه بأنه سيعود إلى المدرسة حتى يكمل ما تبَقى من سنوات دراسية له فيها ويَفرَح أهله بقراره هذا وترافقه أمه أثناء ذهابه إلى المدرسة وهي ترق لحاله وتشفق عليه ويتفاجأ بأنه لم يرسب في السَّنة المنصرمة بل جرى ترفيعه للصف التالي تلقائياً لتكون السَّنة الأخيرة له في هذه المدرسة التابعة لوكالة الغوث "الأونروا" ، والذي حصل مع المهدي هو أن حادثة الضرب الأخيرة التي تعرَّض لها على يَد شقيقه الأكبر فاقت تصَوُّره تماماً وكانت آخِر ما كان يُمكن أن يَتوقع حدوثه في علاقته مع أهله ذلك أن نفسه الرقيقة والشفافة أبَت إلا أن تجعل من تلك الحادثة ولكماتها المفاجئة زلزالاً هَدَّمَ أركانه وهَزَّ أعماقه من الداخل ليستخرج منها عُقدة الإكراه والإجبار والتسلط الكامنة والمتجذرة فيها لتستدعي بدورها وتولد في نفسه ذلك الإحساس المقيت البغيض بالقهر والظلم والذل والهوان لا سيّما وأن الشخص الذي تسبب بإيجادها لدَيه هذه المَرَّة هو شقيقه الأكبر الذي كان يعتبره المهدي في مقام والده ويحبه ويقتدي به في كثير من الأمور وكان من المُفترَض أن تكون رَدة فعل المهدي المُتوَقعة هي رفض الأمر الواقع وعدم الإستسلام والخضوع له وأن يَظهر على سلوكه تجاه هذه الحادثة عشق الحرية والهرب من المسؤولية والتفلت من القيود الجبرية إلا أن ذلك كان سيُؤدي حتماً إلى القطيعة بينه وبين أهله إما بطرده من البيت أو بمغادرته البيت إن لم تكن البلد برمَّتها إلى جهة غير معلومة لأهله بالطبع ولكي لا يَحدث ذلك أرجأ المهدي البت في الأمر برمَّته أي ترك المدرسة إلى ما بعد انقضاء ما تبَقى له من سنوات دراسية في المرحلة الإعدادية في مدرسته الحالية أي آنذاك حيث يتم انتقاله بعد ذلك من مدرسة الوكالة أي "الأونروا" إلى مدرسة حكومية لإكمال المرحلة الثانوية من تعليمه وبمعنى آخر تم تأجيل رَدَّة الفعل الطبيعية لدَيه والسلوك المتوَقع منه إزاء تلك الحادثة الأليمة وليس إلغائهما البتة والدافع الحقيقي الذي استدعى هذا التأجيل هو محبة المهدي لأهله وحرصه على البقاء بينهم لا سيَّما أمه التي كانت لا تستغني عن وجوده إلى جانبها في البيت لشراء وحمل الأغراض والحاجيات التي كان يصعب عليها حملها لثقلها أو يشق عليها جلبها إلى البيت من أماكن بعيدة عنه مثل جلب الغاز من المحل المخصَّص لبيعه أو جلب الكاز للتدفئة في الشتاء من محطة الوقود أو جلب الطحين والمواد التموينية التي كانت "الأونروا" تصرفها كمساعدات عينية شهرية على البطاقات التموينية للأسَر الفلسطينية اللاجئة في تلك البلد إلى غير ذلك من الأمور ، وبالفعل مضت وانقضت تلك السَّنة المُتبقية للمهدي في مدرسة "الأونروا" بحُلوِها ومُرِّها بعد أن اجتازها بنجاح وقد آن الأوان ليجلس مع نفسه ويختلي بها بعيداً عن الناس لا سيَّما وأنه كان قد وصل إلى سِن البُلوغ ليفكر بعُمق في مستقبله وإلى أين سيتجه وكان ذلك يجري منه بصمتٍ مهيب حتى لاحظ أهله صمته وهو يعيش بينهم فكان يسمع ويرى ويراقب كل ما يجري حوله ويفكر في داخله بكل ما يسمع ويرى ويراقب عله يصل إلى نتيجة نهائية لا رجعة عنها في نهاية المطاف ، وأخيراً ماذا وجد المهدي ؟ وجد أهله يتحدثون مع بعضهم البعض وبعض عشيرتهم الأقربين عن انتقاله إلى المرحلة الثانوية من التعليم التي ستؤهله بعد ثلاث سنوات إلى التعليم العالي الجامعي وكانوا يتحدثون في ذلك بفخرٍ واعتزاز وهم يشعرون بفرحٍ وسرور ، هكذا كانوا يتحدثون بكل بساطة وكأن شيئاً لم يكن أو يحدث أو يقع مما قصصته لكم آنفاً ثم يأتون بعد ذلك لينوبوا عنه في تقرير مستقبله ومصيره ذلك في نفس الوقت الذي وجد فيه المهدي أصدقاء له من نفس جيله وأقرانه سواءً أكانوا من عشيرته وأقاربه أم كانوا من أصحابه ومعارفه في المدرسة تركوا الدراسة والتعليم وذهبوا ليتعلموا ويُزاوِلوا مِهَناً مختلفة وتم لهم ذلك بكل سهولةٍ ويُسر وبدون تدخلٍ يُذكر من أهلهم وذويهم وبذلك تكون العقدتان الكامنتان في أعماقه قد تظاهرتا عليه لتولدان معاً في نفسه ذلك الإحساس المقيت والبغيض والمضاعَف بالقهر والظلم والذل والهوان ذلك مع تحقق الإنسداد الكامل في الأُفُق لرَدَّة الفعل الطبيعية لدَيه والسلوك المتوَقع منه إزاء ذلك الواقع الأليم فها هو يرى كيف أن أهله رَهَنوا إرادته بأيديهم وصادروا قراره وانتقصوا من حقه في التعبير عن رأيه أو مجرَّد الإحتجاج ؟ ومن هنا كان لا بُدَّ لنا أن نعرف كيف أثَّر هذا الواقع المأساوي الأليم الذي يعيشه المهدي الآن أي آنذاك والذي كان محصِّلة سنوات طفولته المُعذبة وباكورة حصادها المُرّ على شخصيته وهو في مُقتبَل العمر وبداية الشباب وعنفوانه ؟ وكيف انحرفت هذه الشخصية عن مسارها الإسلامي لتصبح غير إسلامية ؟ فذلكم البيان : أما بخصوص عقليته أي عقيدته الداخلية الخاصة به فهي في أصلها الذي جُبلت عليه إسلامية بحتة خالصة لله ليَدخل المهدي في حوار داخلي صامت مع نفسه قائلاً لها : لقد فعلتُ ما هو أشبه بالمستحيل وكل ما هو عجيب وغريب كي لا أصِل إلى هذه النتيجة فما الذي حصَل ؟ فتجيبه نفسه المطمئنة المؤمنة بقضاء الله وقدَره خيرهما وشرِّهما من الله تعالى : إنها قدرة الخالق العظيم وإرادته ومشيئته التي هي فوق قدرة وإرادة ومشيئة الخلق والبَشر وهو قضاء الله وقدَره الذي يَمتحن به عباده المؤمنين ليُمَحِّص قلوبهم ويَختبر إيمانهم ويَبلوهم بالشر والخير فتنة وإليه يُرجعون ، فيَشهد المهدي بأن الله حق وأنه على كل شيءٍ قدير وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليكون ذلك بمثابة الدرس العمَلي العقائدي الأوَّل له أي المهدي في مَسيرته في الحياة الدنيا ولضمان سلامة عقيدته الداخلية الخاصة به وتنقيتها من الشوائب التي قد تعلَق بها من جرَّاء وساوِس الشيطان مُستغلاً الواقع المأساوي المؤلم الذي يعيشه المهدي الآن أي آنذاك وليَزداد إيماناً مع إيمانه لكنَّ عقيدته الداخلية الخاصة به هذه تبقى مكتومة في داخله ومخزونة في عقله الباطن لأنها العقيدة الإسلامية الصحيحة كما أسلفنا سابقاً ولا يستطيع المهدي أن يبوح بها للناس أو يُخرجها إلى العَلن إلا حين يأذن الله له بالظهور العَلني بين الناس وهذا لن يتمّ له إلا بعد ليلة إصلاحه والله أعلى وأعلم ، وأما بخصوص نفسيته فهي تعني عواطفه ومشاعره وما يَنتج عنها من سلوك وتصرفات أي أعماله في الحياة الدنيا فإذا كانت هذه الأعمال صالحة أي كانت منضبطة بحسَب أحكام الشريعة الإسلامية فإن شخصيته تكون إسلامية وإذا كانت هذه الأعمال غير صالحة أي كانت غير منضبطة بحسَب أحكام الشريعة الإسلامية فإن شخصيته تكون غير إسلامية والحاصل أن الذي كان يُسَيطِر ويُهَيمِن على عواطف ومشاعر المهدي في ذلك الحين هو ذلك الإحساس المقيت والبغيض والمضاعَف بالقهر والظلم والذل والهوان مما أدخله في حالة نفسية سيئة للغاية من العُزلة عن الناس والحُزن الشديد والإنطواء على النفس والإكتئاب الحادّ واليأس والإحباط وفقدان الرغبة في الحياة والإحساس في كافة أنحاء جسمه بالإرهاق والتعَب والعَجز والترَهُّل والكسَل مما أضعَفَ كثيراً من عواطفه الجياشة ومشاعره المتدفقة تجاه دينه الإسلام العظيم  أي من تدَيُّنه الشديد فمَثلاً أصبح شيئاً فشيئاً لا يكترث بأداء الصَّلوات الخمس في أوقاتها ويتعاقب عليه الليل والنهار دون أورادٍ أو أذكار ويشهد أوَّل رمَضان يَمُرّ عليه وهو في هذه الحال فلا يُتِمّ صومه فيه أي يُفطِر فيه أياماً عَديدة وهكذا استمَرّ على هذا الحال والمِنوال إلى أن دخل العام الدراسي الجديد لينتقل إلى مدرسته الحُكومية الجديدة لتبدأ لدَيه مرحلة التعليم الثانوي التي تستغرِق منه ثلاث سنوات قبل الإنتقال إلى مرحلة التعليم العالي الجامعي والتي يُمكن اختصارها لدَيه إلى سنتين فقط في كُلِّية جامعية متوسِّطة بدَلاً من أربع سنوات في إحدى الجامعات الحُكومية وثمَّة هناك مشكلة أُخرى لا علاقة لأهله بها ألا وهي التجنيد الإجباري الذي كان معمولاً به آنذاك في تلك البلد التي كان يَقطنها المهدي وأهله في اللجوء وهو يعني الإلتحاق بأداء الخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف الجيش التابع للسُّلطة الحاكمة في تلك البلد لمدة سنتين وبراتب شهري رَمزي زهيد جداً لا يُسمِن ولا يُغني من جوع فهكذا بدأ المهدي يفكر آنذاك كيف سيقضي هذه السنوات السبع العِجاف من عمره وهو يعيش تلك الحالة النفسية السيئة للغاية على الوجه الذي تقدَّم بيانه إنه أمرٌ صَعب جداً بل يَكاد يكون مستحيلاً والذي يَبدو هنا واضحاً وجَلِياً أن الشيطان كان قد تسَلل إلى نفسية المهدي المُنهارة والمُحَطمة ليَبذر فيها سُمومه بقصد إبعاده عن ربه ودينه بقدَر ما يستطيع الوُصول إلى ذلك من سَبيل فيأتيه من جميع الإتجاهات وفي جميع الأوقات مُرتدِياً ثياب الفضيلة والنُّصح والإرشاد ليُساعده في الخروج من الحالة النفسية السيئة التي أصابته والواقع المأساوي المؤلم الذي يعيشه فيُوَسوِس له على الدوام بضرورة النظر والتدبُّر في واقع أقرانه من أبناء جيله فها هم سُعَداء في حياتهم ويَستمتِعون بأوقاتهم ويَسرَحون ويَمرَحون فإذا ما اطمَأنَّ المهدي له ولنصائحه أي وَساوِسه الشيطانية فإنه يبدأ معه بتزيين فكرة الخروج إلى الأسواق العامة في عينيه ليشاهد ويراقب عن كثب أبناء جيله آنذاك - وهم من يسمِّيهم العالم والمجتمع مراهقين - كيف يتصرفون ؟ وماذا يفعلون ؟ ويخرج المهدي إلى الأسواق بالفعل ويتجوَّل فيها ليَرى بأم عينيه دور السينما المنتشرة في كل مكان وهي مُشرَّعة الأبواب على مِصراعَيها تسُرُّ الناظرين إليها من خلال مُلصَقات الإعلانات بمُختلَف الأحجام عن الأفلام التي تعرَض وسَتعرَض فيها على مدار الساعة ومن خلال صوَر تلك الأفلام ولَقطاتها المؤثرة والمثيرة ويَرى أفواجاً من أبناء جيله يتردَّدون عليها ويَرتادونها باستمرار لحضور الأفلام فيها وهم يتدفقون إليها ويتدافعون فيما بينهم لا سيَّما في مواسم الأعياد ، ويوافق ذلك هوى المهدي ويثير فضوله ليبدأ الشيطان معه بالخطوة التالية والتي هي إغوائه وإغرائه بحضور بعض الأفلام في دور السينما وبالفعل يقوم بحضور بعض الأفلام ليَنبَهر بالأجواء السينمائية الجذابة وبقصص وروايات أفلامها المؤثرة في النفس والمثيرة للفضول ثم لم يمكث المهدي طويلاً حتى أصبح من رُوَّاد دور السينما الدائمين أي من زبائنها وأصبح مشغولاً معظم وقته بمتابعة كل ما هو جديد من الأفلام التي تعرَض في دور السينما سواءً عن طريق الصُّحُف اليومية ما أمكنه ذلك أو عن طريق مُعايَنتها مباشرة وقد كان يَقتطع جزءاً من مصروفه المدرسي اليومي لتوفير المال الذي يحتاجه في ذلك وبدون علم أهله بالطبع ولولا الذكاء الفطري والطبيعي لدَيه في الدراسة والتحصيل العلمي لما استطاع الإستمرار في الدراسة طيلة مرحلة التعليم الثانوي وقد شغلت دور السينما وأفلامها معظم وقته وأشغلته عن نفسه حتى أنساه الشيطان ذكر ربه فلم يلبث أن ترَك صَلاته نهائياً وترَك صَومه في رمضان بالكامل وتجدُر الإشارة هنا إلى أنه لم يتركهما إنكاراً وجُحوداً لهما وإنما كان ذلك عَجزاً وكسَلاً وانشغالاً عنهما ، وهكذا تخلفت الشخصية الإسلامية عن المهدي لتصبح شخصيته غير إسلامية أي خرَجت شخصيته عن أصلها الذي جُبلت عليه وهو أنها إسلامية بَحتة خالصة لله لتصبح غير إسلامية وقد بَدا واضحاً وجَليّاً على شخصيته آنذاك الإنفصال التام بين فكره وشعوره وعدم حصول التوافق والإنسجام بين عقليته ونفسيته أي بين عقيدته الداخلية الخاصة به والتي هي إسلامية بَحتة خالصة لله في أصلها الذي جُبلت عليه وبين أعماله الغير صالحة في الحياة الدنيا أي الغير منضبطة بحسَب أحكام الشريعة الإسلامية ، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى حفظ المهدي وحماه طيلة سنوات إنحرافه عن الحق وصراط الله العزيز الحميد من الوقوع في كبائر الإثم والفواحش أو الموبقات السبع أو نحوه ولم يحصل طيلة تلك السنوات العِجاف أن وقع في دم أو مال أو عرض أحَدٍ من الناس جميعاً وليس من المسلمين فحَسْب وإنما هي اللمَم وصَغائر الذنوب والتي لم يكن ليستغفر ويتوب ويرجع عنها حتى تراكمت عليه وأنقضت ظهره وأثقلت كاهله ليجد نفسه في نهاية المطاف وهو يقف على أبواب العشرين من عمره قد اشتاق للرجوع إلى الله وتذكَّر أيّامَه مع الله في سنوات طفولته المَنسية وبَكى بحُرقة مُتحَسِّراً على ما فرَّط في جَنب الله ودَعا ربه بصدق ونيَّة خالصة أن يَهديه إلى سَواء السبيل والصراط المستقيم مُنتظِراً بفارغ الصبر تلك اللحظة التي ستكون نقطة بدء هدايته بإذن ربه الواحد الأحد فلم يلبث إلا قليلا وكان الله إليه بالخير أسرَع فما الذي حدَث ؟ هذا ما سنتناوله بإسهابٍ وتفصيل في الفصل الثاني من سيرة وحياة المهدي إن شاء الله .

     وبهذا الذي قلناه في كل ما تقدَّم نختتم فصلنا الأوَّل من سيرة

 وحياة المهدي الحقيقي وما لم نقله بعد أكثر بكثير مما قلنا فيما

 تبَقى من الفصول الأربعة في سيرته وحياته ، هذا وقد قمنا

 باختصار الكثير جداً من التفاصيل الدقيقة في حياته طيلة تلك

 المرحلة الأولى من عمره والتي كان جلها أي التفاصيل متعلقاً

 بضرب الأمثلة من واقعه المعاش للدلالة والتأكيد على صحة وصدق

 ما توصلنا إليه من تحليل علمي ومنطقي وعقلاني وواقعي

 لشخصيته أي نفسه التي يحملها بين جنبيه مكتفين بذكر ما

 اضطررنا إليه لكونه لازماً لنا في سياق البحث والتحليل ، وما كان

 ذلك منا إلا خشية الإطالة على القارئ الكريم أكثر مما ينبغي وخوفاً

 من أن يتسلل الملل إلى عقله وقلبه وبالتالي يضعف تركيزه على

 النقاط المهمة والقضايا البارزة والأفكار الرئيسية في حياته أي

 المهدي وهو ما أردنا أن نوصله للقارئ الكريم عن قصدٍ واعٍ منا

 وتعمّد وبأقصر الطرُق كي يصل بنفسه إلى كنه وحقيقة هذه

 الشخصية الغامضة التي احتار بها جميع الناس في عصره أي

 المهدي قبل أن يعرفوها أو يتعرّفوا على صاحبها الحقيقي حتى أنها

 حيّرت المهدي نفسه إلى أن يأتيه من الله اليقين بعلامة ليلة إصلاحه .


       وآخر دعوانا أنِ الحَمد لله رب العالمين       

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق